تحليل الخطاب- البلاغة- الحجاج
تحليل الخطاب- البلاغة- الحجاج:
ما العلاقة بين هذه المباحث وما تأثير كل منها في الآخر؟
عناية هذه الورقة ستكون منصبّة على بحث العلاقة ما بين تحليل الخطاب والبلاغة والحجاج، للوقوف على معانيها اللغوية والاصطلاحيّة، ومنطلقاتها النظريّة، وإجراءاتها التطبيقيّة، عبر تحولاتها التاريخيّة، وبؤر اهتمامها بالنظر في أركان عمليّة التواصل، والتفاوت في تقديم ركن منها، وتأخير آخر في مجال الدرس وظروف الاعتناء.
إنّ العنوانات الثلاثة جميعها لتعلي من قيمة الرسالة اللغويّة، وتضع المبادئ والرسوم والأسس الكافية لبحثها بوصفها مجمعًا حواريًّا مقدّسًا: يصل ما بين الإنسان وخالق الإنسان في رسالات السماء. وما بين الإنسان والإنسان في حوار العقل والروح لخلق وجود محتمل، أو حياة تطاق. وما بين الإنسان ومكوّنات الوجود الطبيعي، من مستلزمات الكون الحيّ الخلّاق، ومن موجبات الفساد الذي هو - مهما طال الزمان - لا بد آت.
تحليل الخطاب؛ بحثٌ في بناء القول والكلام وتشقيقه، وكشف في مكوّنات الرسالة. والبلاغة؛ علم في المقام والمقال، وموافقة مقتضى الحال، فهي بين رسالة تتحقّق، ومستقبِلٍ يوصله الكلام إلى غايته ومبتغاه. والحِجاج؛ نظر عقليّ تشفّ فيه رسالة اللغة، وتسمو على أثقالها، وتلقي بسلطانها، على لسان مخاطِب بليغ، لتصل إلى أذن سامع واعٍ أريب.
- بالبلاغة نبدأ وبها نختتم
البلاغة قديمة بوصفها علمًا دارت عليه كثير من الدراسات والمسائل والقضايا والإشكالات. وفي أصل المعنى اللغويّ للبلاغة في العربيّة إشارة إلى اكتمال فكرة الرسالة على البُعد؛ بُعد ما بين المتكلّم والسامع، فتصير الرسالة فيها حاملةً لما يمكن تبليغه، وقد كثر لدى القدماء في الشعر ورود صيغ من مثل: ألا أبلغ فلانًا...، ومن مبلغٌ عنّي...، وغيرهما من الصيغ الدالّة على المقدرة على التوصيل لمعنى منجز، جرت صياغته، وتوضّحت معالمه، فصار قابلاً للنقل، وصارت مادّته من ثمّ قابلة للدرس البلاغي في المستويات المعروفة والمعهودة فيها. فالبلاغة اسم مشتق من الفعل (بلغ) وهي تعني إدراك الغاية أو الوصول إلى النهاية. وهي تدل في اللغة وفي الاصطلاح كذلك على إيصال معنى الخطاب كاملا إلى المتلقي، سواء أكان سامعًا أم قارئًا. وهكذا قد يُفصل القول عن سياقه، فيغدو نصًّا لغويًّا معزولاً عن كل ما يكتنف صياغته، ومعناه السياقي، وعن منشئه بالضرورة، وعن متلقّيه المحتمل، فلا نجد حديثًا وافيًا في الدرس البلاغي العربي أو في التحليل البلاغي لهذه العناصر، بما يفيها حقّها من البحث والتأمّل والنظر المنشود.
وفي الحجاج نظرٌ شبيه بما مرّ ذكره في البلاغة، ولعلّ الحجاج يقتصر على الإعلاء من النظر في مدى قدرة المتكلّم على التأثير في السامع أو المتلقّي بما يودَع في الرسالة من الخصائص التأثيريّة والمزايا العقليّة أو المنطقيّة أو العاطفيّة الكفيلة بجعل المستمع أو المتلقي يذعن لما يقوله الخطاب أو النص، على اعتبار أنّ النصّ قد اغتنى بتلك الخصائص وتجوهرت فيه، وجاء أوانها لتفعل فعلها الدال على مقدرة القائل أو المرسل أو المبلِّغ أو المُخاطِب أو الخطيب، وهنا يبرز التركيز على الخطيب بوصفه المنشئ الأكثر استعمالاً للحجاج، والأشد حاجة إليه؛ لأنّ الكلام المتعيّن اقترب من مقام الخطاب، وانزاح قليلاً عن مفهوم النص. لكن يبقى النظر في الحجاج مشدودًا إلى الخصائص النصّيّة الماثلة في البناء اللغوي، والمعطاة في المعاني والدلالات المنبثقة عنه، أي عن ذلك البناء اللغوي، وإذا نُظر إلى الخطيب، فلا يكون النظر في تعيّنه الفرديّ أو الشخصيّ، ولكن يكون الخطيبُ خطيبًا كأيّ خطيب، كما يكون الحديث عن الشاعر أي شاعر، لا على التعيين. وهذا هو ما جعل أرسطو يفرد كتابًا للخطابة أو (البلاغة ريطوريقا: Rhetoric) وكتابًا آخر للشعر أو (في الشعر أو "الشعرية" بويطيقا: Poetica).
أما في تحليل الخطاب، فإنّ الاصطلاح في هذا البناء التركيبي الإضافي ضمِن جوهر معنى التحليل في المضاف متأثرًا بعلوم العصر التي أمدّت كلمة التحليل، ومن ثمّ مصطلحه، بفاعليّة وانتشار وأفق واتّساع نظر. وفي الخطاب، أي المضاف إليه، توكيد على تنامي تطوّر وسائل الاتّصال والتواصل الحديثة، وضمان التقييد الطبيعي للخطاب في سياقه الكلّي، فقد غدا من الممكن، ومن المتاح، ومن الضروري في كثير من الأحيان، أن تسجّل الأقوال المنطوقة لفظًا حيًّا ومباشرًا كما يُقال، وأن يصوّر القائل في أثناء النطق، فيحفظ السياق على درجة عالية من المحاكاة الدقيقة، حتّى لكأنّ الخطاب ماثل في السياق مثولاً طبيعيًّا، ولعل هذا ما أغرى العلماء بالعودة إلى مصطلح الخطاب ليكون بديلا عن النص، وليصير علَمًا على كل الأقوال المنطوقة أو المحتملة النطق في آن واحد معًا. ولا ننسى أنّ الخطاب في أصله اللغويّ في العربيّة يتّصل بالخطبة المأخوذة من القول يلقيه الخطيب في محفل، على جمهور قلّ أو كثر، ويكون ذلك في أمر هام، أو حدث جلل، هو في أساسه خطب استدعى ذلك الاهتمام. وليس يبعد ذلك كثيرًا عن أصل الخطابة في التقاليد الإغريقيّة في المجالات الثلاثة التي أشار إليها أرسطو، وهي؛ البرهانيّة والاستشاريّة والقانونيّة.
إنّ الخطاب بمعناه الحديث - بعد تطوير ميخائيل باختين له في المبدأ الحواري ودراسة التلفّظ، وميشيل فوكو في نظام الخطاب وحفريات المعرفة – هو اصطلاح يتضمّن البلاغة بعناصرها ويزيد، ويتضمن القول وظروفه المحيطة به ويزيد، ويتضمّن الحجاج وعناصره العديدة ويزيد، وهو حافظ للمرسل وللرسالة وللمستقبل جميعًا معًا، علاوة على السياق الضامن لمعرفة كلّ الملابسات الممكنة، ولفتح الأفق لمناقشة حال المتكلم ونفسيّته، حين سكتت البلاغة القديمة عن ذلك. ولمناقشة حالة المتلقي التي لم تعد بحسبان تلك البلاغة أوانَ تراجعها. ولمناقشة كل ما أمكن من عناصر السياق المحتملة التي لم تعد تأبه بها البلاغة، ولم يحفل بها الحجاج إلا لمامًا.
- مع (أرسطو 384 – 322 ق. م.) يبدأ البحث، وبه قد ينتهي، فكيف يكون ذلك؟
يقول فولتير: "لا أعتقد أنّه قد ندّ عن (أرسطو) شيء واحد من دقائق هذا الفنّ (فنّ الخطابة)... ولا شيء أدلّ على إرهاف حسّه وسلامة ذوقه ممّا فعله (في هذا الكتاب) بوضعه كلّ شيء في مكانه الصحيح"( )، وفي نهاية التصدير خلص عبد الرحمن بدوي إلى القول: "وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة وعشرين قرنًا على هذا الكتاب، فلا يزال حتّى اليوم عمدة الباحثين في الخطابة والبلاغة، ولا نعلم في تاريخ الكتابة في هذين الفنّين ما يفوقه حتّى يوم الناس هذا"( ).
ابتداء فإنّ البلاغة هي الخطابة، أو الخطابة هي البلاغة، وهما كذلك جزء من الحجاج، أو الحجاج جزء منهما. فكما يرى أرسطو وشرّاحه ومترجموه، وذلك من خلال العنوان؛ فإنّ (الخطابة هي الريطوريقا: Rhetoric، وهي البلاغة)، "إنّ الريطوريقا كما استقرّ مفهومها في الثقافة الإغريقيّة إنّما هي نظرية في القول الناجع، وهي كذلك ذات علاقة متوطّدة بالممارسة الشفويّة"( )، وترى (روث أموسي:Ruth Amossy) صاحبة كتاب (الحجاج في الخطاب) أنّ حدّ الخطابة الذي هو فنّ الحمل على الإقناع لدى أرسطو يكون وفق القواعد الأربع الآتية: ا. لا خطاب خارج مقام التلفّظ، فأن نتكلّم أو أن نكتب هو أن نتحاور. 2. الخطاب يرمي إلى التأثير في العقول، فهو فعاليّة لفظيّة، فالمقول هو ذاته فعل. 3. الفعاليّة الخطابيّة تستند إلى العقل، فاللوغوس يعني العقل والكلام في الآن نفسه [أي اللغة]. 4. الخطابة هي فعل منجز يتوسّل بتقنيّات وإستراتيجيّات بين الخطيب والمتلقّين. ومن هنا تبدو علاقة الحجاج بالخطابة علاقة ظاهرة بيّنة لاشتراكهما في جانبيّ التأثير وقوّة العبارة ونجاعة الكلام( ). وتخلص أموسي إلى أنّ "الخطاب الحجاجي لا ينفك عن الخطاب الإقناعي، فهي تعتبر تلك الخطابات خطابات متفاعلة داخل نسيج الخطاب الواحد"( ) ويقول ابن الأثير: "مدار البلاغة كلّها على استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، لأنّه لا انتفاع بإيراد الأفكار المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلَبة لبلوغ غرض المخاطب بها"( )، فهو يجمع ضمنًا في كلامه بين الخطاب والبلاغة والحجاج.
وتناوب هذه المصطلحات الثلاثة ماثل في أغلب النصوص القديمة والحديثة في هذا المجال، ممّا يدلّ على التداخل الكبير فيما بينها، على صعيدي الماهيّة والوظيفة، مثال ذلك نظرُ المحدثين في أقدم النصوص اليونانيّة "إنّ البلاغة الأرسطيّة، إذن، احتماليّة وتعدّديّة، تبني عمليّة الإقناع على عقلنة الخطاب دون إلغاء مبدأ إحداث التأثير بوساطة الأهواء، لذلك شملت مجمل أنماط الخطابات البرهاني، والاستشاري، والقانوني، المحيلة على القسمة الثلاثيّة المعروفة للأنواع الخطابيّة، وأعطت الأولويّة للغة أو اللوغوس"( )، ونجد مثل هذا أيضًا حين نتتبّع تطوّر البلاغة الغربية وتحوّلها لدى المنظّر الروماني (شيشيرون 106 – 43 ق.م.) ولدى خلفه (كوينتليان 30 – 100ب. م.) إلى الخطيب بدلاً من اللغة. "هكذا، تمّ الانتقال من عالم بلاغي متمركز حول اللغة عند الإغريق إلى عالم متمحور حول الخطيب مع الرومان. ولعل الفرق واضح بين التصوّرين، فإذا كانت البلاغة عند أرسطو نتاج فكر حرّ لا يُلزم الجمهور بتلقّي خطابات وقبولها، إلا بقدر تلاؤمها واعتقاداته وأفكاره، استنادًا إلى بنية مزدوجة تقبل الطرح والطرح المضاد؛ فإنّ البلاغة الرومانيّة ظلّت رهينة (المؤسّسة الخطابيّة) الخاضعة لتراتبات اجتماعيّة وسياسيّة، مستجيبة لمواضعات موجّهة تحكم علاقة الإرسال بالتلقّي، في مقابل سابقتها التي أشكل عليها أمر اللوغوس. لا شكّ، إذن، أنّ البلاغتين صادرتان عن مفهومين مختلفين للإنسان والفكر والتاريخ ميّزا كلّ مرحلة بمنطقها الخاص"( ).
ولاستكمال العرض يمكن لنا أن نذهب إلى أنّ البلاغة في المرحلة الحديثة أخذت توجّهين بارزين، "نحا أوّلهما بمفهومها منحًى جدليًّا، سعى إلى امتلاك معرفة دقيقة. ولعلّه الهدف الذي توخّاه كتاب "خطاب المنهج"، فصاحبه (ديكارت) صاغ على غرار أجزاء النسق البلاغي الخمسة - المصطلح عليها تباعًا بإيجاد مصادر الأدلّة، وترتيب أقسام القول، والأسلوب، ثمّ الذاكرة، فالإلقاء – قواعد منهجيّة ذات خطوات تحليليّة مماثلة، مبتدؤها المسلّمة ومنتهاها التركيب، مرورًا بالتفكيك والبرهنة. غير أنّها، على عكس الأولى – منجذبة صوب التحليل الرياضي، يحرّكها هاجس بحث جوانب التضليل والحدس والحقيقة في الإقناع، تحدوها الرغبة في التوصّل إلى نتائج تتّسم بالضبط والصرامة العلميين"( ).
أمّا التوجّه الآخر فجعل البلاغة مرادفة للأسلوب( )حتّى باتت تُعرف به، "فأضحت اللغة المجازيّة، على إثره، موضوع دراسة كلّ من "مجازات" (ديمارسيه 1730م) و"صور الخطاب" لدى (فونتانيي 1820م)، استقصاء منهما لأدواتها وصورها، ممّا سيكون له الأثر الواضح في قراءات بلاغيّة عديدة، وعلى رأسها "الأسلوبيّة"" و"لقد أدّى كلا التوجّهين إلى وقف البلاغة على عقلانية أو انزياح أقصيين، وبالتالي إلى حجبها حتّى منتصف القرن العشرين، حيث ستنبعث في السنوات الخمسين من رماد تراكم المقاربات اللغويّة، وعلى رأسها الإسهامات البلجيكيّة لكلّ من (بيريلمان: Perelman) و(جماعة مو: GroupeMu ) وهي الأعمال التي كان لها أثر في تجدّد البلاغة، ولو على حساب شطرها شطرين - مرّة أخرى – باعتبارها مسارًا حجاجيًّا وإجراءً أسلوبيًّا من ناحية أخرى"( ).
"لقد جرى نهر البلاغة مجاري متفرّقة، ولا شكّ أنّ مفهومها سواء في الفترتين التأسيسيّتين الإغريقيّة والرومانيّة، أو إبّان عصر النهضة، وصولاً إلى انبعاثها في القرن العشرين، بقي مرتبطًا بالمرحلة التاريخيّة التي صدر عنها وبتصوّراتها للمعرفة والعالم. لذلك تفرّقت به مسالك ومفارق، وتلبّس حللاً شتّى تراوحت بين العقلانيّة النسبيّة، والبرهنة الصارمة، والجماليّة الأدبيّة، والاحتماليّة التعدّديّة، وسمته بسمات الضلال (أفلاطون)، وذاتيّة القيم (شيشيرون وكينتليان)، وفنّ القول (بلاغة دومارسي – فونتانيي وجماعة مو) [وهذا العنوان هو الذي ابتكره الشيخ أمين الخولي للبلاغة في مناهج تجديده في النصف الأول من القرن العشرين في اللغة العربيّة]، والمنطق شبه الصوري (تولمين)، والاستدلال المعقول (بيرلمان)، أفرزت كلّ سمة أشكالاً من المخاطبين: الكائن الإشكالي المتعدّد عند أرسطو، والإنسان النموذجي ذو القيم العليا لدى الرومان، و"المستمع الكوني" بالنسبة لتيار البلاغة الجديدة لا سيّما بيرلمان." ( ).
وهكذا يمكن أن نخلص إلى أنّ كلّ الاتّجاهات البلاغية على مرّ الزمن تمحورت حول الجانبين الإمتاعي والإقناعي وهما حدّا البلاغة، فالإمتاعي يقوم على إجراءات أسلوبيّة واستراتيجيّات استهوائيّة تخاطب أحاسيس الجمهور وتحرّك عواطفه لتبنّي موقفٍ مؤيّد للخطاب الموجّه إليه. والإقناعيّ يقوم على الأطروحة والأطروحة المضادّة، والاستدلال المنظّم، وبحث المعقول والمقبول من الرأي المخالف. وهذا هو ما أدّى إلى تضييق أفق البلاغة في هذين الحدّين، وجعلها تجمد وتصاغ في قوالب ثابتة، فكان لا بدّ من نفخ الروح فيها من جديد بتطوير مقولات الحجاج، وفتح آفاق الأسلوبيات، وتبنّي مفاهيم البلاغة الجديدة التي اتّسمت بشمولية النظر، حتّى طمحت في نهاية المطاف إلى تعميم مقارباتها على كلّ أنواع الخطاب( ).
وحين يكون الحديث عن التواصل بعامّة والحجاج بخاصّة، لا بدّ للبلاغة من أن تتصدّر الكلام، أو قُلْ لا بدّ للخطاب البلاغي من أن يكون حاضرًا بامتياز "يدخل الجانب البلاغي كآليّة رئيسيّة في تشكيل خطاب جمالي لتحقيق تواصل مميّز ومثمر بين الناس، واليوم نعيش عودة قويّة للبلاغة، التي تعرف حضورًا متميّزًا في مشهد علوم التواصل"( ). وعلى الرغم من عودة البلاغة بقوّة في العصر الحديث، فعلينا ألاّ ننسى أنّها عبر تاريخها الطويل كانت فنًّا للإقناع أو فنًّا للتعبير، فحين يتّسع المجال الديموقراطي تهيمن البلاغة بوصفها فنًّا للإقناع، كما لدى أرسطو ومحاكم أثينا ومجالس الشعب، وحين يتقلّص مجال الحريّات تتحدّد في مجالات أخرى فنًّا للتعبير والتزيين، كما كان الأمر في البلاغة العربيّة والبلاغة الغربية الكلاسيكيّة في عهد سلطة الدين الكاثوليكي. غير أنّ هدفها في النهاية يبقى هو الاتّجاه نحو الآخر من أجل إشراكه والعمل على انخراطه في قضيّة ما أو طرح معيّن( ).
ويكتب مثلاً صابر الحباشة كتابًا تحت عنوان(التداوليّة والحجاج: مداخل ونصوص) فيقدّم بمقدّمة تحت عنوان: "التداوليّة والبلاغة: مقاربة جديدة" ليميّز بين البلاغة الجديدة والبلاغة الحديثة، ويعرّف التداوليّة انطلاقًا من نظريّات أفعال الكلام بأنّها "علم استعمال اللغة في المقام"( ) أمّا البلاغة بحسب (كريرات أوريكيوني) فهي "نظريّة الوجوه ونظريّة طرق تحريف الكلام وتحويله" وفي نطاق الإرث الأرسطي (الذي تابعه بريلمان وتيتيكاه في مؤلّفهما (مصنّف في الحجاج: البلاغة الجديدة) هي دراسة فنّ الإقناع ودراسة الوسائل الناجعة للتعبير: إنّ الصور والوجوه البيانيّة تعلّل تداوليًّا"( ).
لقد كان هناك إدراك دقيق لما آلت إليه البلاغة القديمة لدى اليونان والرومان والعرب من بعدهم، فهي جمدت أو ماتت أو نضجت حتّى احترقت، فكان لا بدّ من بعثها من جديد، "تعرّف البلاغة الجديدة بأنّها نظريّة الحجاج التي تهدف إلى دراسة التقنيّات الخطابيّة، وتسعى إلى إثارة النفوس، وكسب العقول عبر عرض الحجج، كما تهتمّ البلاغة الجديدة أيضًا بالشروط التي تسمح للحجاج بأن ينشأ في الخطاب، ثمّ يتطوّر، كما تفحص الآثار الناجمة عن ذلك التطوّر" .
من عنوانات فصول الكتاب لدى الحباشة (البلاغة والحجاج) ويقول تحته: "ليس الحجاج علمًا/فنًّا يوازي البلاغة، بل هو ترسانة من الأساليب والأدوات يتمّ اقتراضها من البلاغة (ومن غيرها، كالمنطق، واللغة العاديّة،...)، ولذلك فمن اليسير الحديث عن اندماج الحجاج مع البلاغة في كثير من الأساليب. ولمّا كان مجال الحجاج هو المحتمل وغير المؤكّد والمتوقّع، فقد كان من مصلحة الخطاب الحجاجيّ أن يقوّي طرحه بالاعتماد على الأساليب البلاغيّة والبيانيّة التي تُظهر المعنى بطريقة أجلى وأوقع في النفس. ولعلّه من الطريف بمكان الإشارة إلى أنّ الأساليب البلاغيّة قد يجري عزلها عن سياقها البلاغي لتؤدي وظيفة لا جماليّة إنشائيّة (كما هو مطلوب في سياق البلاغة) بل هي تؤدّي وظيفة إقناعيّة استدلاليّة (كما هو مطلوب في الحجاج). ومن هنا يتبيّن أنّ معظم الأساليب البلاغيّة تتوفّر على خاصيّة التحوّل لأداء أغراض تواصليّة، ولإنجاز مقاصد حجاجيّة، ولإفادة أبعاد تداوليّة"( )، هكذا تبقى البلاغة هي المسيطرة على هذا العلم الجديد أي الحجاج، لأنّه من رحمها خرج يومًا، وإليها يعود ليحييها وليحيى هو بها من جديد. حتّى لكأنّ البلاغة الأرسطيّة كانت حاملة -منذ اليوم الأوّل لميلادها- بذور اكتمالها، بوصفها خطابة لا تموت، وحجاجًا لا تنقضي فاعليّته.
لذلك يرى محمد الولي أنّ "هذه البلاغة الأرسطيّة المختزلة إلى المقوّمات المشار إليها هي التي نفض عنها الغبار أبو النظريّة الحجاجيّة المعاصرة (بيرلمان) في مصنّف الحجاج أو البلاغة الجديدة"( )، وهذا يتّفق مع ما يذهب إليه فيليب دوفور في قوله الآتي: "بلاغة (rhetorique): حسب التعريف الذي أورده المنظّرون اليونانيّون القدماء، هي العلم الذي يُعنى بفنّ ممارسة الكلام العلني أمام جمهور متردّد و/أو معارض بهدف كسب تأييده. ظلّ علم البلاغة يشكل جزءًا أساسيًّا من التعليم حتى بداية القرن العشرين في فرنسا حين ألغي من البرامج الرسميّة. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، أعاد شارل بيرلمان (Charles Perelman) إحياءه وصارت أدواته جزءًا من أدوات تحليل الخطاب من دون أن تحمل بالتحديد اسم علم البلاغة/ rhetorique"( ) إذًا الحجاج هو البلاغة الجديدة، والبلاغة ذاتها هي تحليل الخطاب من هذا الوجه أو ذاك، فهي بأدواتها جزء من أدوات تحليل الخطاب، هذا العلم الجديد الناشئ حديثًا كذلك.
ويرى محمّد الولي أيضًا "أنّ أخطر الإنجازات الأرسطية في براري البلاغة هي تلك المتعلّقة بالجوانب الذاتيّة أو الانفعاليّة. وهي التي تستأثر بالكتاب الثاني من (الخطابة) إلا أنّ البلاغة الأرسطيّة، وفي ظلّ شروط تاريخيّة معيّنة، تمّ تشذيبها وتدجينها وترويض جموحها، عبر اختزالها إلى بلاغة المحسّنات التي استقرّت صياغتها النهائيّة والتامّة على يدي (بيير فونتانيي) في مصنّفه الذائع (محسّنات الخطاب). وتمّ ذلك بتعطيل دماغها أي المقوّمات اللوغوسيّة، وببتر قلبها؛ أي المقوّمات الانفعاليّة أو الذاتيّة. وكان هذا البتر هو السبب المباشر لاغتيالها، لا لموتها، إذ إنّ المقوّمات اللوغوسيّة أو الموضوعيّة تمثّل حلقة ارتباط البلاغة بالمنطق وبالفلسفة وبالسياسة؛ في حين أنّ المقوّمات الانفعاليّة تمثّل الحلقة التي تربط البلاغة بالأخلاق والسياسة والسيكولوجيّة. وأعتقد أنّ البلاغة ما تزال إلى اليوم تتلمّس الطرق التي توصلها إلى استعادة حقّها وملكيتها على هذه الأدغال البلاغيّة. وأعتقد أنّ هذه المقوّمات تعيش اليوم حالة تصعلك في مجالات التواصل الإشهاري والدعاية والتلقين التربوي والتفاوض السياسي والاستنطاق"( ).
فمهما حاولت الدراسات الحديثة في باب تحليل الخطاب، أو الحجاج أن تعيد الألق إلى عناصر الخطاب الحيويّة من باث ومتقبّل، أو مرسل ومستقبل، أو مخاطِب ومخاطَب، فإنّها لا تعدو بذلك أن تجلو الغبار عمّا لحق بأصول البلاغة الأرسطيّة التي تجلّت ناصعة يومًا ما "إنّ العنصرين الذاتيين في خطابة أرسطو هما ذينك المتعلّقين بالإيتوس والباتوس أي سيكولوجيّة الباث وسيكولوجيّة المتلقي أو المستمع"( )، وهكذا فإنّ ما بشّر به ميخائيل باختين في مبدئه الحواري لا يعدو أن يكون أكثر من تعليقات وحواشٍ -على ما فيها من لفتات بارعة وذكيّة- لما كان قد قرّره أرسطو يومًا ما في كتابه الشهير عن البلاغة، أو قُلْ الخطابة في أصل المعنى "موضوع علم (عبر اللسانيّات) تعادل كلمة (الخطاب): الخطاب، أي اللغة بكلّيّتها الملموسة؛ الخطاب، أي اللغة كظاهرة كلّيّة ملموسة؛ الخطاب، أي التلفّظ [بحسب مفهوم باختين للتلفّظ]" ( ).
فهل يزيد باختين في قوله الآتي عن أن يشرح -بذكاء ودهاء وبصر ثاقب- ما قاله أرسطو من قبل؟ "ما هو، في الواقع، ذلك العنصر الذي يوحّد الحضور المادي للخطاب مع معناه؟ إنّنا نؤكّد أنّ هذا العنصر هو التقييم الاجتماعي. ونحن ندعو هذا التقييم الاجتماعي الواقع التاريخي الذي يضمّ الحضور المتفرّد للتلفّظ مع عموميّة معناه وتعدّديته، وهو ما يجسّد المعنى في وضع ملموس ومتفرّد ويمنح هنا والآن، معنًى (لحضور الخطاب العميق)" ( ).
يشرح تودوروف الكلام السابق [التلفّظ: الخطاب] بقوله: "هذه العمليّة لا تفترض الوجود البسيط لجسمين فيزيائيّين فقط، أي الجسمين الخاصّين بالمرسل والمستقبل، بل تفترض حضور كينونتين اثنتين (أو أكثر) من الكينونات التي تترجم صوت المرسل وأفق المستقبل. وليس الزمان والمكان اللذان يحدث فيهما القول مجرّد مقولتين فيزيائيّتين صافيتين، ولكنّهما زمان تاريخيّ وفضاء اجتماعيّ. إنّ تداخل الذوات الإنسانيّة يصبح شيئًا فعليًّا عبر حدوث تلفّظات بعينها." ( ). إنّ هذا في جوهره هو تفعيل لأفكار أرسطو، ونفخ للروح فيها بعد أن صمت الناس دهرًا عن استنطاقها. فهذه هي التأمّلات العميقة في المرسل وسياقه، والمستقبل وسياقه؛ " كل عنصر من عناصر العمل يمكن مقارنته بخيط يصل بين الكائنات البشريّة. والعمل كلّه هو مجموعة من هذه الخيوط التي تخلق تفاعلاً اجتماعيًّا معقّدًا متمايزًا بين الأشخاص الذين يتواصلون معه"( ).
ولا يقف الأمر عند المرسل وسياقه والمستقبل وسياقه، فلا بدّ من أن تكون العناية أكبر بالخطاب أو الرسالة أو النصّ والسياق الذي يكتنفه من الجوانب جميعها " إنّ الخطاب (كما هي العلامات جميعها) بين – فردي. إنّ كلّ ما يُقال، ويُعبّر عنه، يقع خارج (نفس) المتكلّم ولا ينتسب إليه، فقط، لا يمكن أن نعزو الخطاب إلى متكلّم وحده. قد يكون للمؤلّف (المتكلّم) حقوق في الخطاب غير قابلة لتحويلها إلى شخص آخر، لكن للسامع أيضًا الحقوق نفسها، وكذلك لأولئك الذين يترجّع صدى أصواتهم في الكلمات التي أوجدها المؤلّف (إذ ليس هناك كلمات لا تنتسب إلى شخص ما). الخطاب هو دراما مكوّنة من ثلاثة أدوار(إنّها ليست ثنائيّة بل ثلاثيّة). إنّها تؤدّى خارج المؤلّف، ومن غير المقبول أن نحقنها داخل المؤلّف"( ).
وعلى ما سبق، فإنّنا نقرأ الخطاب في صيرورته في العصر الحديث قراءة تاريخيّة على صعيد الاصطلاح، فنجده يعرّف من أحد جوانبه -مقابلاً للغة- على النحو الآتي: "الخطاب (Discourse): تنتمي جذور المصطلح إلى العربية في ارتكازه لدى (التهانوي) على الخطب أو الحدث الواقع فيه التخاطب، وعلى الذاتيّة فيما أسماه (الكلام النفسي)، وهاتان الركيزتان هما محور التصوّر في الفكر البنيوي. ولأنّ (سوسير) كان ينظر إلى اللغة على أنّها (نظام من الاختلافات) فقد فصلت البنيويّة بين نظام هذه اللغة والحدث الخطابي الذي يتمخّض عنه ذلك النظام، فوقعت ثنائية اللغة/الخطاب، لتُعنى (اللغة) بالمخزون الذهني الذي تمتلكه الجماعة، بينما يُعنى (الخطاب) بما يختاره المتحدّث من ذلك المخزون اللغوي ليعبّر عن فكرته" ، في حين يكون تعريف اللغة في هذا السياق مبنيًّا على أن "تتجاوز الإشارة اللغوية إلى المصطلح حال الفصل بينها وبين كلّ من الخطاب والكلام، ليراها سوسير في العلاقة الأولى نظامًا من الاختلافات حتّى فصلت البنيوية بين نظامها الطبيعي والحدث الخطابي الذي تمخّض عنه هذا النظام، لتُعنى اللغة بالمخزون الذهني الذي تمتلكه الجماعة، ويصبح (الخطاب) عمليّة اختيار من ذلك المخزون- أمّا في الثانية مع (الكلام) فهي تصبح مجموعة من العلاقات التي تشمل نسق الكتابة، ليستوجب الفصل بين هذه العلاقات كخاصيّة اجتماعيّة شاملة، وتقنيّة السلوك الفردي التي تفقد معياريّتها حال التأصيل لهذه العلاقات"( )، ومثل هذا ما عالجه بنوع من الاستفاضة والتفصيل بول ريكور في كتابه "نظريّة التأويل: الخطاب وفائض المعنى" حين أفاض في الحديث عن اللغة بوصفها خطابًا، مقابل الكلام والكتابة، مستثمرًا الإرث الأرسطي، ومستفيدًا من لمحات باختين، ومطوّرًا النموذج السوسيري البنيوي( ).
ولا ننسى في هذا السياق أنّ تحليل الخطاب أو علم النصّ أو علم لغة النصّ قد نشأ في الأصل نشأة لغويّة، أي أنّه نما وترعرع على أيدي علماء اللغة دون غيرهم؛ "يكاد يجمع كل المتحدّثين عن الخطاب وتحليل الخطاب على ريادة (زليغ هاريس: 1952) في هذا المضمار من خلال بحثه المعنون بـ "تحليل الخطاب". إنّه أوّل لساني حاول توسيع حدود موضوع البحث اللساني بجعله يتعدّى الجملة إلى الخطاب. ( )"
ويرى سعيد يقطين أنّ هاريس باعتباره توزيعيًّا قد سعى إلى تحليل الخطاب بنفس التصوّرات والأدوات التي يحلّل بها الجملة. فاهتمّ بذلك انطلاقًا من مسألتين: أولاهما توسيع حدود الوصف اللساني إلى ما هو خارج الجملة، وهذه مسألة لسانيّة بحتة، أما المسألة الأخرى فتتّصل بالعلاقات الموجودة بين اللغة والثقافة والمجتمع، وباعتبارها قضيّة خارج لسانيّة فلم يهتمّ بها هاريس. وببقائه ضمن حدود المجال اللساني، فقد عرّف الخطاب بأنّه "ملفوظ طويل، أو هو متتالية من الجمل تكوّن مجموعة منغلقة يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة من العناصر، بواسطة المنهجيّة التوزيعيّة، وبشكل يجعلنا نظلّ في مجال لساني محض"، وهذه العناصر تلتقي من خلال التوزيعات لتعبّر عن انتظام معيّن يكشف عن بنية النص، ومحدّد هذا الانتظام يكمن فيما يسميه هاريس بالتوازي الذي يشكّل لوحة ذات محورين أفقي وعمودي( ).
لكنّ درس الخطاب فيما بعد خرج من عباءة اللغة، أقصد من عباءة علم اللغة، إلى فضاء أعم وأرحب بكثير، وذلك على يدي (ميشيل فوكو)، الذي فتح الأفق لقراءة نظام الخطاب، أو قُل أنظمة الخطابات جميعها، التاريخيّة منها، والمعاصرة لنا، وأحدث ثورة في هذا المجال كادت تقطع الصلة ما بين الخطاب والبلاغة الإصطلاحيّة، إلاّ أنّه احتفى بمفهوم القوّة، أي قوّة الخطاب المتمثّلة بالسلطة التي يشتمل عليها، سواء أكانت من نواتج الشكل البلاغي له، أو من مفاعيل البناء الداخلي لنظامه، وانصبّ جلّ اهتمامه على تفكيك أنظمة الخطابات التي تعرّض لها في دراساته العديدة، والمنفتحة على مجالات متباينة.
يرى الزواوي بغورة في نقد المنعطف البنيوي لدى ميشيل فوكو بأنّ تحليل الخطاب يسترعي بعض الملحوظات الآتية: تحليل الخطاب يقوم على خطوتين هما؛ الوصف والتأويل التاريخي. وأبرز نقطة في الوصف العام للمنطوق أنّه غير مستتر، إلا أنّه غير مرئي، فهو موجود على حدود اللغة. وقواعد الوصف أربع هي؛ أ/ الندرة: أي ندرة المنطوقات التي من مقتضياتها أنّ الكلّ لا يُقال أبدًا. فتعدّد المعنى يرجع إلى ندرة المنطوقات تلك، ومن نتائج ذلك أنّ لا خطاب دون سلطة، ولا سلطة دون خطاب. ب/ الخارجيّة: فقد تتماثل الخارجيّة مع الحياديّة، إلا أنّ تحليل الخطاب لا يكون حياديًّا؛ لأنّ المنطوق ليس ترجمة، وإنّما هو ميدان ممارسة أو مجال تطبيقي. ج/ التراكم: وصف المنطوق يعني إقامة نوع من الوضعيّة، أو المكانة لذلك الخطاب. د/ القبْلي التاريخي: إنّ المنطوقات تتواصل وتترابط من خلال حالة أو مكانة خطاباتها، وهذه المكانة تلعب دور القبْلي التاريخي، وهذا ما يحيل على الأرشيف لا على التراث كما يراه فوكو. فالأرشيف قانون ما يمكن أن يقال، فليس هو التراث، إنّه " النظام أو النسق العام لتشكّل أو تحوّل المنطوقات"( ).
ويرى الفرنسي (بنُفنست) أنّ الجملة تخضع لمجموعة من الحدود، إذ هي أصغر وحدة في الخطاب. ومع الجملة "نترك مجال اللسانيّات كنظام للعلامات" على اعتبار أنّ الجملة تتضمّن علامات عديدة وليس علامة واحدة، "وندخل إلى مجال آخر حيث اللسان أداة للتواصل نعبّر عنه بواسطة الخطاب"( ).
مع بنُفنست وعدد من اللسانيّين الغربيّين نجد ثنائيّة جديدة على قدر من الأهميّة، وهي التلفّظ مقابل الملفوظ، فالتلفّظ يعني الفعل الذاتي في استعمال اللغة؛ إنّه فعل حيوي في إنتاج نصّ ما، كمقابل للملفوظ باعتباره الموضوع اللغوي المنجز والمغلق والمستقل عن الذات التي أنجزته. وهكذا يتيح التلفّظ دراسة الكلام ضمن مركز نظريّة التواصل ووظائف اللغة. ويرى بنفنست أنّ التلفّظ هو موضوع الدراسة وليس الملفوظ( ).
وبعد أن يستعرض الخطابات الشفويّة مثل المخاطبة اليوميّة والخطبة الأكثر صنعة وزخرفة، والخطابات الشفويّة المكتوبة مثل المراسلات والمذكّرات والمسرح والكتابات الأخرى، باختصار كلّ الأنواع التي يتوجّه فيها متكلّم إلى متلقّ، وينظم ما يقوله من خلال مقولة ضمير المتكلم، يقيم بنفنست نظامين للتلفّظ هما الحكي والخطاب، وذلك استنادًا إلى مقولة الضمير والزمن، بعيدا عن التمييز القائم على مقابلة المكتوب بالشفوي، فالتلفّظ القصصي يُحتفظ به الآن في اللغة المكتوبة، بينما الخطاب يوظّف كتابة وشفويًّا، وفي الممارسة العملية للتلفّظ نجدنا في الآن نفسه ننتقل من أحدهما إلى الآخر( ). وهذا قريب جدًّا ممّا ذهب إليه باختين في تشقيقه لمعنى الحوار والحواريّة، ومن ثم لكلامه المستفيض عن التلفّظ. وكذلك قريب ممّا ذهب إليه بول ريكور في كتابه "نظريّة التأويل: الخطاب وفائض المعنى".
بهذا نخلص إلى القول بأنّ العناية بتحليل الخطاب بقيت وفيّة للبلاغة في حديثها عن القائل والظروف التي تحيط به، وكذلك المستمع أو المتلقي، وإن كانت الجملة هي أساس انطلاقهم الأوّل، بوصفها الرسالة الصغرى أو الصورة الأولى للخطاب الذي تتكاثر جمله وتتزايد، ممّا يزيد من العناية بهذه الرسالة في ظروفها بوصفها رسالة عبر لغويّة، تنتج عن إستراتيجيتين متحوّلتين وليس عن ذاتين فيزيائيتيّن جامدتين. ولعلّ هذا ما جعل البلاغة تتصدّر المشهد من جديد. فلا يغدو جوهر تحليل الخطاب في صياغته الحديثة، وفي اصطلاحه الجديد، أكثر من محاولة جادّة لتجديد البلاغة، كما كان الحجاج كذلك تعبيرًا عن البلاغة الجديدة بامتياز.
فقد عرض كريستيان بلانتان هذا الأمر بوضوح في كتابه "الحجاج" حين تتبع الدراسات المعاصرة في الحجاج بعد أن عرض للقديمة منها بمسح تاريخي سريع، فقال عما استجدّ في هذا الباب بعد سنة 1945، أي بعد الحرب العالميّة الثانية ما يأتي: "إنّ دراسات الحجاج ونظريّاته توفّـران مشـهدًا متّسمًا بالتباين؛...، ويمكن أن يُعتبر وجود جمعيّة دوليّة لدراسة الحجاج، ومجلّة حجاج التي أُسّست سنة 1967 ممثّلاً لحواريّة جديدة....، ومن الأكيد أنّ أزمة الخطاب السياسيّ مع ظهور الأنظمة الكلّيّانيّة والأشكال الحديثة للدعاية ساهمت مساهمة كبيرة في تجديد هذه الدراسات،... تمثّل أواخر الخمسينيّات فترة أساسيّة في الدراسات حول الحجاج. ففي سنة 1958 ظهر فعلاً "مصنّف في الحجاج – البلاغة الجديدة" لـ بريلمان وتيتايكا، و"استعمالات الحجاج" لـ تولمين، تلتقي هذه المصنفات الآتية من آفاق متنوّعة والمحرّرة بأساليب مختلفة تمام الاختلاف في إحالتها المشتركة إلى الممارسات القضائيّة، وهي تبحث في الفكر الحجاجي عن وسيلة لتأسيس عقلانيّة خصوصيّة متوفّرة في الأمور البشريّة" .
وتحت عنوان ملتقيات الطرق النظريّة، يدرج المؤلّف بلانتان خمس مسائل هي [ومهمّة هذه الطرق أن تفصح لنا بجلاء عن مقدار التداخل بين كلّ من تحليل الخطاب والبلاغة والحجاج في الفكر الحديث]:
أ. اللغة / الفكر: "الحجاج نشاط لغوي يصحبه نشاط فكري وينتج أثر فكر؛ فنحن نقبل على ميدان الحجاج بوساطة علوم اللغة. فالحجاج نشاط فكري يعبّر عن نفسه ويترك أثرًا في الخطاب. ويُنظر إلى ميدان الحجاج من زاوية المنطق(الصوري أو غير الصوري) والعلوم العرفانيّة".
ب. اللسان / الخطاب: " اللسان حجاجيّ. إنّ هذه الجملة الفرعيّة الملغّزة شيئًا ما تجعل من الاتّجاه نحو نتيجة خاصيّة دلاليّة في الجمل(خارج السياق)، والبحث عن الحجاج ينتمي إلى لسانيّة اللسان بالمعنى السوسيري للفظ. إذا اعتبرنا الحجاج خلافًا لهذا ظاهرة خطابيّة تنتمي إلى ممارسة اللغة في مقام أمكن الاختيار بين أمرين: [أولهما] كلّ كلام حجاجيّ حتمًا، فهو نتيجة ملموسة للتلفّظ في مقام؛ وكلّ ملفوظ يرمي إلى التأثير في المرسل إليه، في الآخر، وتبديل نسق فكره. وكلّ ملفوظ يجبر أو يحمل الآخر على الاعتقاد وعلى النظر وعلى الفعل بطريقة غير طريقته. ودراسة الحجاج هي دراسة نفسيّة لسانيّة أو اجتماعيّة لسانيّة. [وآخرهما] بعض الخطابات فقط حجاجيّة، وينبغي البحث عن الحجاجيّة في طريقة تنظيم الخطابات. وهذا الموقف هو موقف النظريّات الكلاسيكيّة للحجاج البلاغي.
ج. حوار أحاديّ/ تحاور: "تتّخذ دراسة الحجاج موضوعًا لها أساسًا الخطاب الحواريّ الأحادي لاستخراج الأبنية التي يقوم عليها، والصفتان المشتقّتان تحاوريّ ثنائيّ وحواريّ أحاديّ تطابق الاسمين تحاور ثنائيّ وحوار أحاديّ. وموضوع دراسة الحجاج هو المقام التحاوريّ والتداول والتحادث. وتستعمل الدراسة الأدوات التي صيغت لتحليل التفاعلات اللغويّة"
د. دراسة الحجاج غير معياريّة / معياريّة: المعايير أنواع عديدة، ومنها خياران كبيران هما: معيار النجاعة الذي يحمل على الفعل الحسن، مثل التأثير في السياسيّين أو في المشترين في حالة حجاج الإشهار أو الإعلانات. ومعيار الصدق، وهو معيار حجاج العلوم.
هـ. مسألة إجماع / اختلاف: 1/ غاية النشاط الحجاجي هو إقامة إجماع وفسخ اختلافات الآراء، فالتنافر علامة نقص أو خطأ..... / غاية النشاط الحجاجيّ هو تنشيط الخلافات وتعميقها. والحجاج يعين على إنتاج آراء غير متوافقة، والتنافر شرط تجديد الفكر.، وهذا ما يذهب إليه (ش. أ. ويلار: C. A. Willard) ( ).
إنّ هذه الطرق التي يشرحها بلانتان تكشف عن مقدار التداخل الحادث بين العنوانات الثلاثة التي حاولنا تبيّن معانيها والعلاقات فيما بينها، والآثار المتبادلة التي تتفاعل فيها هذه العلوم، أو المنهجيات، أو طرائق التحليل، أو ما شئت أن تطلق عليها من الأسماء، سواء بمسميّاتها التي وردت في العنوان، أو بمرادفاتها الأخرى المتكاثرة التي من شأنها أن تزيد المشهد تداخلاً، والأفق ضبابيّة، والمجال التباسًا، فيكفي أن نعرض لعدد من تلك العنوانات التي لم نجتهد لجمعها وانتقائها بمقدار ما عثرنا عليها ونحن نعدّ لكتابة هذه الورقة العلميّة، سواء الكتب العربيّة منها أو تلك الكتب المترجمة.
بلاغة الخطاب وعلم النص/ صلاح فضل. كتاب الخطابة / أرسطو. علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات/ سعيد بحيري. مدخل إلى علم لغة النص/ إلهام أبو غزالة وعلي خليل أحمد. الحجاج بين المنوال والمثال/ علي الشبعان. التداوليّة والحجاج، مداخل ونصوص/ صابر الحباشة. الحجاج وبناء الخطاب في ضوء البلاغة الجديدة/أمينة الدهري. استراتيجيات الخطاب/عبد الهادي بن ظافر الشهري. بحث في العلامة المرئية، من أجل بلاغة الصورة/ مجموعة مو. الحجاج/ كريستان بلانتان، ترجمة عبد القادر المهيري. تحليل الخطاب السردي، وجهة النظر والبعد الحجاجي/ محمد نجيب العمامي. النقد والبلاغة/ شكري عيّاد. قراءة جديدة للبلاغة القديمة/ رولان بارت، ترجمة عمر أوكان. تحليل الخطاب الروائي/ سعيد يقطين. بلاغة الفن القصصي/ وين بوث. وغيرها الكثير الكثير. فهي تثير الإشكال بما يبوح به العنوان، أو تفصح عن ذلك في الفصول الداخلية، أو في المناقشات في ثنايا كلّ كتاب. وسنعرض لأمثلة من ذلك.
مثال ذلك في كتاب "علم لغة النص: المفاهيم والاتّجاهات"، لسعيد حسن بحيري، فنُعرض عن البابين الأوّل والثاني في هذا الكتاب لأنّ أوّلهما يُعنى بملاحظات أوّليّة هي؛ مدخل تاريخي نقدي وأشكال النص ونظريّته ونموذجه. وثانيهما يُعنى بمفاهيم النصّ؛ تعريفاته وأبنيته ونحوه وفهمه. أمّا الباب الثالث /الأخير فهو اتّجاهات التحليل النصّي بفصول ثلاثة (ص 191 – 286) هي؛ تجزئة النصّ عند (فاينريش) أو التجزئة النحويّة للنصّ. ونحويّة النصّ عند (فندايك) أو آجروميّة النصّ. والتحليل التوليدي للنصّ عند (بتوفي) أو التحليل النحوي – الدلاليّ للنصّ. لنلحظ أن علم النصّ أو علم لغة النصّ بقي وفيًّا للمبحثين البلاغي القديم والأسلوبي الحديث في انحصاره في اللغة أو في الأبعاد النصّيّة اللغويّة ولم يتوسّع في البحث في الظروف المحيطة بالنصوص كما يحاول تحليل الخطاب أن يفعل حين يضيق بهذه الحدود، فيناقش السياقات الخارجيّة للنصوص، ويجهد في توسيع الخطاب والخطابات لتطال اللغة الفنيّة وغير الفنيّة معًا، ولتطال اللغويّ وغير اللغوي في ظروف الخطاب.
ومن العنوان "علم لغة النص: المفاهيم والاتّجاهات" نجد تكاثر الصيغ الدالّة على تحليل الخطاب، باستبدالات كثيرة، بين التحليل والعلم، والخطاب والنص، ناهيك عن التداخل ما بين البلاغة والخطاب والأسلوبيّة والخطابة والحجاج، ونستعرض من ذلك: أوّلاً؛ الكتب الكثيرة التي تتحدّث عن البلاغة والبلاغة الجديدة أو البلاغة والأسلوبيّة، فلدى رولان بارت (قراءة جديدة للبلاغة القديمة) وعدد كبير لدى غيره في اللغات المختلفة تحت عنوان (البلاغة والأسلوبية)، فالبلاغة القديمة تطوّرت إلى البلاغة الجديدة أو صارت هي علم الأسلوب أو الأسلوبية، البلاغة القديمة لم تكن تعنى بغير البعد الفني في اللغة، وجاءت الأسلوبية لتعنى بالبعد الفني للكلام الفردي، في أغلب اتّجاهاتها، وإن توسّعت لتشمل الفن في اللغة بعامّة، لكنّها لم تمتد إلى كلّ أشكال التواصل،...، وهكذا، تراعي النظريّة النصّيّة كلّ أشكال التواصل دون تمييز، خلافًا للبلاغة والأسلوبيّة معًا، حيث يكون للبعد الفنّي وما يحدثه الشكل من أثر جمالي الاعتبار الجوهري." .
وكذلك الأمر في كتاب "بلاغة الخطاب وعلم النصّ"، لصلاح فضل حيث يقول فيه محاولاً تعليل جمود البلاغة القديمة، ومحاولة نفخ الروح فيها في العصر الحديث "فكثير من البلاغيين البنيويين يعزون السبب إلى الانحصار التدريجي للمجال البلاغي، فمنذ الإغريق أخذت البلاغة في الواقع تنحصر قليلاً قليلاً في مجال بعض الخواص اللغويّة للنصوص. وذلك ببتر جناحيها الرئيسيّين - كما يقولون- وهما الاستدلال والترتيب. وفي نطاق هذه الخصائص اللغويّة فإنّ الأمر ما لبث أن اقتصر في نهاية الأمر على مجرّد تصنيف الأشكال البلاغية، وأخذت نفس الأشكال تضيق حتّى انحصرت في مرحلة تالية في الصيغ المجازيّة فحسب. ثم لم تلبث أن ركّزت على ثنائية الاستعارة والكناية قبل أن تضع الاستعارة وحدها في بؤرة الضوء المركزيّة" .
وفي النص الآتي من الكتاب نعثر على توضيح يقدّمه المؤلّف بخصوص الجمع بين البلاغة والخطاب الذي ظهر في العنوان الرئيسي للكتاب "فبلاغة الخطاب تطمح إلى إقامة قوانين الدلالة الأدبيّة بكل ثرائها وإيحاءاتها. أو تهدف إلى احتواء ما أطلق عليه (بارت) علامات الأدب. وكلّما حدث استعمال لأحد الأشكال البلاغيّة المعترف بها في نظمها فإنّ الكاتب لا يسند إلى لغته حينئذ مهمّة "التعبير عن فكرة"،...، وفي التحليل الأخير فإنّ الوضع المثالي للبلاغة - طبقًا لهذا المنظور- يصبح متجسّدًا في تنظيم اللغة الأدبيّة باعتبارها لغة ثانية داخل اللغة الأولى التي تسمّى طبيعيّة"( ).
ومن هنا مثلاً رأى (واين بوث) أن يجعل عنوان كتابه القيّم والشهير المنشور سنة 1961 "بلاغة الفنّ القصصي:Rhetoric of Fiction " مستندًا إلى المفهوم القديم لمعنى البلاغة التي تُعنى باللغة الأدبيّة، لكنّه وسّع هذه السمات الأدبيّة لتطال الفنّ القصصي ولا تبقى حبيسة فنّ الشعر كما كان معهودًا من قبل. ولعلّنا لا نعثر على أيّ من قوانين البلاغة التقليديّة في هذا الكتاب البتّة، فهو يناقش الواقع والخيال، والمؤلّف الضمني والقارئ الضمني، ومشكلات الصوت الواحد وتعدّد الأصوات، وهذه كلّها تدخل في باب بلاغة النصّ أو الخطاب، لكنّها لا تنحصر في أنماط البلاغة التي سادت من قبل، وإن كان الكاتب أفاد منها كثيرًا. فهي إذن بلاغة جديدة، وتحليل خطاب من نوع ما. يقول بوث: "سيتضّح لجميع القرّاء الذين استطاعوا الوصول بأنّ كلّ شكل بلاغي أو أي كلمة مجازيّة قد استخدمت كانت لجعل السرد أكثر تأثيرًا وذات صلة بموضوعنا. إنّ كلّ صفحة تقريبًا من صفحات كتاب أرسطو (البلاغة)، وكلّ أداة أدبيّة في كتاب كونتليان (المعهد)، أو دراسة كينيث بيرك الخالدة في قواعد وبلاغة و"رمزيّة" التفاهم بين البشر، تستطيع أن تساعدنا في شرح نجاح أو فشل قصّة ما أو قصّة ممكنة"( ). فيمكن القول إنّ بوث قد اعتمد خطّة عمليّة لتطوير البلاغة القديمة، دون أن يدخل في جدل المفهوم، فهو استثمر كلّ ما أمكنه من مزايا هذا العلم القديمة منها والحديثة، وغامر بجعل العنوان على الصيغة التي اختارها له، ولعلّه كان من أسباب نجاح الكتاب، وما لاقى من رواج وشهرة.
وعلى صعيد آخر نجد أنّ علم البلاغة يشترك في أمور كثيرة مع علم لغة النص، وذلك في سياق كتاب آخر يورد منها الافتراضات المشتركة بينهما الآتية: أوّلاً: الضبط المنهجي للتوصّل إلى الأفكار وترتيبها. ثانيًا: الانتقال بين الأفكار والتعبيرات لا يستعصي على التدريب الواعي. ثالثًا: بين النصوص المختلفة المعبّرة عن الأفكار نصوص أرقى من سواها. رابعًا: يمكن تقييم النصوص بما تحدث من أثر في نفوس المتلقين. خامسًا: النصوص هي وسائل نقل للتفاعل الغائي( ). وعلم لغة النص هنا هو المرادف لتحليل الخطاب بكلّ تأكيد.
أخيرًا نخلص إلى أنّ تحليل الخطاب هو في حقيقة أمره محاولة حديثة جاهدة لبعث الحياة في البلاغة القديمة، وذلك بالتوسّل بكلمة الخطاب التي هي في الأصل مرادفة للبلاغة بشكل أو بآخر. والبحث المستفيض في العلاقة بين المرسل والمستقبل، وسبر غوريهما من خلال ما يتجلّى في ذات الخطاب، وهو الرسالة، أو النصّ الذي أقيم له الصروح العلميّة في علم النص أو علم لغة النص، وهو تحليل الخطاب، أو بلاغة الخطاب في عبارة أبلغ في الدلالة. والحجاج كذلك هو البلاغة الجديدة كما أسماه أعلام الحجاج في العصر الحديث، دونما مواربة. وعلى ذلك فإنّ البلاغة عادت لتصبح هي سيّدة الموقف كما رأينا لدى واين بوث، وها هي مجموعة مو تؤسّس لبلاغة جديدة أوسع من الحجاج الذي بدأت به، بل تؤسّس لما أسمته بلاغة الصورة.
فتعدّ (مجموعة "مو": فرانسيس إدلين وجان ماري كلينكنبرغ وفيليب مانغيه)، من أبرز دعاة إحياء البلاغة القديمة وتجديدها، وتوسيع إطارها لتشمل كل الحقول الإنسانية، انطلاقًا من اللغة إلى علم العلامات والفنون جميعها، فبقيّة مجالات التواصل والفاعليّة الإبلاغيّة والبلاغيّة، ومن أبرز كتاباتهم في هذا المجال كتاب "بحث في العلامة المرئيّة: من أجل بلاغة الصورة".
ففي الكتاب تأسيس لبلاغة التواصل المرئي، وذلك على امتداد الجزء الثالث منه ص 359 - 494، في الفصول؛ السادس: البلاغة المرئية الأساسيّة. السابع: البلاغة الأيقونيّة. الثامن: البلاغة التشكيلية. التاسع: البلاغة الأيقونيّة التشكيليّة. كما أنّ الجزء الرابع جاء تحت عنوان؛ نحو بلاغة عامّة ص 497 - 564، في الفصول؛ العاشر: الأسلبة. الحادي عشر: سيميائيّة الإطار وبلاغته. الثاني عشر: نحو بلاغة الملفوظات ذات الأبعاد الثلاثة.
وقد عرّفت بلاغة التواصل المرئي في الثبت التعريفي في نهاية الكتاب بالقول الآتي: "تأسيس نظري يرمي إلى [بيان] كيفيّة اشتغال المنظومات البلاغيّة داخل السيميائيّة، وإلى أي مدى يمكن تطبيقها على الأيقوني والتشكيلي. وقد بيّن المؤلفون أنّ بلاغة التواصل المرئي، إذ تفيد من البلاغة اللسانيّة، تدرس الانزياح المكاني الذي يتحقّق في الملفوظين الأيقوني والتشكيلي اعتمادًا على الدرجة المُدرَكة والدرجة المتصوّرة"( ).
وأخيرًا فإنّ البلاغة تعود إلى المشهد لتكون دالّة على أنماط لم تحلم بأن تدلّ عليها من قبل، فبعد أن ترسّخت مفاهيم بلاغة الخطاب وبلاغة الحجاج، توسّعت لتطال بلاغة الأسلوب اللغوي وغير اللغوي، فصار لدينا بلاغة الموضة، وبلاغة الصورة، وبلاغة الدولة( ) وبلاغة المترو( )، وبلاغة كل شيء يمكن أن يؤثّر في المتلقي بالإقناع أو الإمتاع مهما كانت الوسيلة أو الأداة، وهي في نهاية المطاف بلاغة دالّة على القوّة، أو ممثلّة للسلطة التي من شأنها أن تلقي بظلالها على المستقبِل أو المتلقّي المخاطَب باللغة أو بغيرها في نظريّة التلقي( ) التي يروّج لها في العصر الحديث أيّما ترويج.
التعليقات والمناقشات
- أحد الحاضرين
يتساءل: هل نسمي البلاغة القرآنية بلاغة قديمة كوننا ابتلينا ببلاغة قديمة وأخرى جديدة؛ وهل نقول عن بلاغة الرسول - صلى الله عليه وسلم- بأنها بلاغة قديمة؟.
كما يعتقد أن الجامعات الأردنية قد أهملت البلاغة؛ فخصصت ساعات قليلة لمادة البلاغة؛ بينما حصلت مادة الأدب على الحصة العظمى من الساعات، رغم أن الأديب لا يستطيع تحليل قصيدة أو نصٍّ نثري إذا لم يمتلك الأدوات البلاغية؛ فالصورة الفنية فيها بيان ومجاز واستعارة وألوان من البديع مختلفة فإذا لم يكن الأديب الذي يدرِّس الأدب متمكِّناً من أدوات البلاغة فلن يستطيع أن يحلل هذه القصيدة أو النص النثري.
- د. حامد صادق قنيبي
يعرِّف المصطلح بأنه اللفظ أو الرمز اللغوي الدَّال على مفهوم معين في علم أو فنٍّ أو أيِّ عملٍ ذي طبيعة خاصة، وشروط المصطلح المثالي عنده أن يكون لفظة محددة المعنى قابلة للتنسيق وقابلة للزيادة، ويرى أن العرب واجهوا قضية الخطاب في تراثهم فوجدوا كلمة (الخطاب بالإنجليزية) فتركوا اللفظة كما هي ولم يترجموها إلى كلمة خطاب.
كما يرى أن حل المعضلة القائمة هو الاعتراف بأن الخطاب كمفهوم جاء من الغرب بكيفية معينة لها تاريخ اجتماعي وحضاري وآثاري وبيولوجي وثقافي معين، حتى تكوَّن عندهم الخطاب بأشكال متعدَّدة، وتطوَّر، وألغى التالي منه السابق، إلا أننا ما زلنا نتمسَّك بكل جزئية من جزئيات التطور الغربي ونركِّبها على حاضرنا البلاغي غير الموجود في الواقع.
ويرجو أن ننتهي بالوصول إلى حل بخصوص هذا المصطلح اللفظي وإيجاد بديل عنه.
- رد الدكتور جمال مقابلة
في معرض ردِّه على من تساءل عن مصطلح البلاغة الجديدة والقديمة ومفهوم الخطاب يقول: مفهوم الخطاب في الغرب يختلف من باغتين إلى فوكو إلى برليمن... الخ، بالتالي فالمطلوب هو الحديث عن الخطاب بمفهوم فلان أو فلان؛ وبهذا قد يُضبط مفهوم الخطاب.
ويأخذ على الجامعات تدريسها لبلاغة السكاكي وإهمالها لبلاغات أخرى كبلاغة الجرجاني، ويرى أن هذا جموداً أصاب البلاغة كما أصابها في أوروبا سنة 1910؛ إذ توقف تدريس البلاغة في فرنسا لأنه أصابها ما أصاب البلاغة العربية الآن، وحين أعيد النظر في كتاب أرسطو عادت الحياة للبلاغة والحجاج والخطاب؛ فقال الناس: هذه بلاغة جديدة، والسبب في ذلك هو أن هذه مسائل لا تموت؛ لذلك فالخطاب موجودٌ في لغتنا بالطبع، نبحث عن أقرب الأشياء له، ولكن المشكلة في وجود أزمة تكمن في أن من يتعامل معنا من الخارج يعرفنا أكثر من معرفتنا لأنفسنا؛ فيلقي لنا بالوناً هنا وآخر هناك ليشغلنا عن البلاغة الحقيقية.
ليست هناك تعليقات